أكتب هذه السطور بعد أن أمضيت يوماً كاملاً بالنظر إلى مكان بوعيسى - محمد السدرة - الخالي، علّه يأتي ليملأه مزاحاً وفرحاً - كما يفعل كل ليلة - لكنه تأخّر عن موعده هذه المرة، وما أصعبه من تأخير، فقد غاب للأبد خير الأصدقاء وأحطنا بغيابه المجلس دموعاً وحزناً وحسرة! محمد السدرة كان معروفاً للجميع اجتماعياً، إمّا من خلال عمله السابق في مطار الكويت، واما عبر عمله الإداري المتدرج حتى منصب نائب الرئيس في النادي العربي، واما مؤخراً في موقعه مديرا لجمعية القادسية التعاونية، لكن ما كان لأحد - غيرنا - أن يستأثر به مساءً، كما استأثرنا به نحن في ديوانية المرحوم حيدر سعود الحسن، أو كما هي مشهورة بــ «ديوانية بوعادل»، وما كان ينافسنا فيه - أحياناً - سوى ديوانية صديقه منير العتيبي رئيس نادي خيطان. محمد السدرة جمع في قلبه وطناً كاملاً، فكان من القلّة القليلة التي أحبت الجميع فأحبوها. جمع العربي والقادسية في قلبه من خلال النادي والمنطقة، فكان في خدمتهما معاً ويتحسر إذا تدهور وضع أحدهما. كان في العربي صديقا وداعماً لأحمد عبدالصمد الرئيس السابق، وفي القادسية مؤيداً لأحمد باقر النائب السابق. إلا انه بعد هذا - وذاك - لم نكن نسمع منه حين يجالسنا مساءً في مجموعته الخاصّة جدا سوى حديث الوحدة الوطنية، ودائماً ما يؤكد ذلك بالتطبيق. كانت نصيحته لنا بأن خير وسيلة لتوحيد المجتمع الكويتي هي بإلغاء الكلمات التي تحمل معاني التفرقة من قاموس أفكار المتحدث، فاللغة العربية بها مفردات كثيرة وأساليب بليغة، بإمكانها إيصال الأفكار دونما حاجة الى الحديث المباشر بأن فلان جماعته كذا أو عقيدته كذا أو أصوله كذا، فإذا فعلت عكس ذلك كان قولك بمنزلة ترسيخ وجود لما قد يباعد بين الكويتيين. فكانت كلماته تلك نبراساً نهتدي به، كما اهتدينا بأسلوبه الديموقراطي النادر المتقبل الرأي والرأي الآخر بكل سعة صدر ومن دون تجريح. محمد السدرة لم يكن يحمل في قاموس لسانه سوى الكلام العذب، ولم تكن دفاتر عقله تحتوي في طيّاتها عدا الأخلاق الراقية. كان يدخل علينا في المساء يسأل أوّل ما يسأل عن نتائج النادي العربي، خصوصاً في كرة القدم، بل وكان يتحسّر على الفانيلة الخضراء التي عاصر تألقها مع المدرب ديفيد مكاي، حين يرى اللاعبين الحاليين لا يؤدّون الأداء المقنع، فيقول «هالفانيلة مو أي واحد لازم يلبسها». وفي خلاف ذلك الوضع المحلّي، كان دائم المرح «معي شخصياً» لكوني «إنكليزياً» أشجع ليفربول، بينما هو مؤازر للغريم مانشستر يونايتد، وما فتئ مؤخراً أن يهزأ بلاعبنا الجديد المهاجم آندي كارول، واصفاً إضاعته للفرص وتسجيله للأخرى بالقول «هذا دلو ماي ودلو طين»، ومن ثم يردد متحدياً مقولة الفنان حسن البلام في برنامج قرقيعان «مانشستر إحنا لا جينا ورحنا». إلاّ إن ذلك ما كان يمنعه من سرد حديث الذكريات الجميلة من زيارته لملعب الأنفيلد وأسطورته المدرب بوب بيزلي مع النادي العربي في نهاية السبعينات، حين كان بيزلي يدير خطط الفريق من هاتف بالمقصورة العلوية مرتبط بآخر لدى مساعده في دكة اللاعبين. محمد السدرة لو أردنا أن نذكر محاسنه التي عشناها معه بشكل شبه يومي في آخر عشرين سنة - في جدول يبدأ عقب صلاة العشاء وقت خروجه من المسجد إلى العاشرة مساءً وقت مغادرته المعتادة للديوانية - لاحتجنا الى حجم صحيفة كاملة لتسطّر - فقط - المقدمة ما تكنه قلوبنا تجاه تواضعه الجم، فكم كنا نستمتع طوال أيام الأسبوع بإحضار «العشيات» البسيطة، التي تقوي الروابط بين الأحباب، فتارة نجلب التكا البحرينية، وتارة أخرى النخي والباجيلا، وأحياناً الأجبان المتنوعة مع الخضروات، ومرات أخرى الفطير المشلتت أو سندويشات الفول والفلافل. محمد السدرة لمن لم يعاشره لم يكن شارباً للشاي ولا للقهوة ولا أي مشروب آخر يحتوي الكافيين، بل كان يكتفي إما بالنعناع، واما الدارسين واما اللومي واما العصائر الباردة. كان إلى آخر أيامه رياضياً يمارس رياضة المشي باستمرار، لا بل وأحياناً يشاركنا لعب كرة القدم وهو في سن الخمسينات. وكان كذلك كارها للتدخين فعلا ورائحته، حريصا كل الحرص على منعه في مجلسنا. محمد السدرة كان رجلاً محبا للخير منظما نشيطا معطاء خدم البلد من كل موقع، ولم يكن بخدمته يطمع سوي بالذكر الطيب، فكان له ما أراد حين استرجع البارئ عز وجل أمانته وهو صائم يتوضأ، استعداداً لصلاة الظهر. محمد السدرة كان لطيفاً هادئا في حياته، واستمر بلطفه إلى أن استرجع الرحمن أمانته من دون شكوى لمرض أو علّة، وكان ختام تقديره لأحبابه هو توقيت دفنه الذي تم في صباح يوم مشمس لطيف النسائم الباردة كروحه اللطيفة. رحمك الله يا أبا عيسى وأسكنك فسيح جناته، فقد تركت فينا فراغاً لن يُسَدّ من بعدك أبداً.
د. حمد الحسن ديوانية المرحوم بوعادل alhasan@usa.com
|